الشفاهية والكتابة كإشكالية ثقافية/ ممدوح الشيخ
تحتل قضية "الشفاهية والكتابة" شديد الأهمية في عالم اليوم بوصفها واحدة من القضايا الثقافية الرئيسة. وتتجاوز أهميتها حقل الإبداع الأدبي كونها تثار فيها في سياق السجال حول وسيلة التعبير لا حول المغزى المعرفي للانحياز لأي منهما، فالشفاهي والكتابي في كل الثقافات متجاوران متفاعلان يتبادلان التأثير والتأثر، غير أن الإشكالية في المنظور الثقافي لها أبعاد أخرى شديدة الأهمية وفي سياق اتجاه عالمي لتأكيد الهوية الثقافية وعناصر التميز والاختلاف عن الآخر تشهد ثقافات كثيرة اهتماما مبالغا فيه بـ "الشفاهي" بغية تأكيد المحلية، كما تظهر في العالم العربي من آن لآخر دعوات لاستبدال الفصحى بالعامية كمنحى تطويري للعربية، وهو ما يقترن عادة بالادعاء بأن العربية جامدة عاجزة عن مواكبة العصر أو قاصرة عن التعبير عن مفاهيم علمية.
اللغة والمقدَّس
ولعل البعد الأكثر أهمية الذي نرى البدء منه لتحديد موضع هذا التساؤل هو علاقة اللغة بالمقَّدس، حيث تطرح القضية عادة على نحو "مبتسر" يقصر دائرة النظر على "المعيش" المباشر اليومي من دون الإشارة الى صلته بالمقدَّس، وحسب المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور "إدوارد سعيد" فإن إشكالية الشفاهية والكتابة تثير "الكثير من السجالات، إنها مسألة على درجة عالية من الخطورة كونها ترتبط بعناصر أيديولوجية لا شأن لها في المعيش اليومي للغة عند الناطقين بها".
ويضيف الدكتور "إدوارد" أن البلاغة في التقليد الأدبي العربي عمرها ألف عام والكتَّاب العباسيون من أمثال "الجاحظ والجرجاني" بلوروا أنظمة بالغة التعقيد وحديثة إلى حد غريب سخروها لفهم البيان والفصاحة والاستعارة• لكن هذه الأبحاث ارتكزت على اللغة الكلاسيكية المكتوبة وليس على المحكي اليومي منها• فالأولى يطغي عليها القرآن بصفته الأصل والنموذج لكل ما يأتي بعده في حقل اللغة• وهي نقطة لا يعتادها مستخدمو اللغات الأوروبية الحديثة التي تتطابق فيها اللغتان المحكية والمكتوبة وفقدت فيها الكتب المقدَّسة سلطانها اللغوي.
والملاحظتان اللتان ينبغي التوقف عندهما في أطروحة "إدوارد سعيد" أن الإجابة عن السؤال تتصل بالأيديولوجيا، أي بالأفكار المسبقة غير القابلة للبرهنة، ما يعني أنها جزء من رؤية الإنسان للكون والذات كما أنها تتضمن بالضرورة انحيازاً ولا تتصل بالعلم بطبيعته المحايدة المنضبطة بالمنهج• أما الملاحظة الثانية فهي الارتباط بين غياب "النموذج المكتوب" المتصف بالثبات كوسيط مواز للشفاهي المتطور بتطور الحياة اليومية وبين فقدان "السلطة اللغوية" للكتب المقدَّسة، وإن لم يشر الى تأثير ذلك في فقدان السلطة المعرفية والثقافية لهذه الكتب كنتيجة طبيعية لفقدان سلطانها اللغوي.
حول المفهومين
لا يقتصر مفهوم الشفاهي على المنطوق والمسموع بل يزيد عليه وسائل أخرى للتواصل الحركي من إيماءات وإشارات وملامح وأوضاع لحركة الجسد كتعبيرات مصاحبة تسند التعبيرات اللفظية لتؤكدها أو تعززها أو تضيف إليها قصد جعل ما تتضمنه هذه النصوص الشفاهية أكثر حياة ووضوحا وجاذبية.
والمشكلة كما أشرنا سلفاً ليست في إمكان التجاور بينهما كوسطين للتعبير أو مستويين للثقافة بل في سعي أنصار الشفاهية لمنحها موضع الأولية، فالشفاهي لا يتطابق مع مفهوم "ما قبل الكتابي" بوصفه مرحلة بدائية تتصف بالقصور، وهو بالتالي ليس انحرافا عن "الكتابي" بل هو الحال المعيارية، وبالتالي فالشفاهية "أصل معياري" والكتابة انحراف عن هذا المعياري.
أما الكتابي فهو حسب تعريف المنحازين لأولية الشفاهية ما ينتج من "لقاء لغة بأخرى، أي لقاء اللغة الصوتية بلغة الخطوط المرئية وحتى يتم الانتفاع بها يجب الانتقال من القناة السمعية إلى الأخرى البصرية، وهو ما يختم بالتالي تعبيرا في نظام العلامات"، وكما هو واضح ينطلق التعريف من أن العلاقة بين المنطوق والمنطوق علاقة بين لغتين لا بين وسيطين للتعريف، كما أن الكتابة لا تؤدي إلى حماية المنطوق من التحريف بل هي نفسها تحرفه!!!
وحسب "تزفتيان تودوروف" فإن للكتابة معنيين: "ضيق يراه في النظام المنقوش للغة المدوَّنة• وعام يقصد به: "كل نظام مكاني ودلالي مرئي". وفي إطار انتقاص قدر الكتابي كموقف "أيديولوجي" يتم تشييد بنية تاريخية ومفاهيمية كاملة تعزز هذا الانحياز، فمثلاً، "الكتابة ظهرت بعد إدراك الإنسان الحقيقة الفاجعة: "أن العدم هو قدره، فاتخذها وسيلة لدحر هذا العدم، وهذا ما توحي به أسطورة (جلجامش)، التي تذهب إلى أن البطل حارب قدره ونازل الآلهة وتمرد على سلطانها، وحين عاد من صراعه مهزوما بدأ يكتب سيرته على الألواح".
ولدى البدائيين مثلت الكتابة إحدى أدوات العرافة بوصفها قوة غيبية ذات أثر فاعل، وتمتد رمزية الكتابة إلى أسلوب تدوينها ويسوق "ميشيل فوكو" في البرهنة على ذلك ملاحظة لأحد كتاب عصر النهضة الأوروبي هو "كلود ديريه" هي أن: "العرب والعبرانيين والمصريين والأتراك والفرس والتتار" يكتبون جميعا من اليمين إلى اليسار، وهم في هذا يتفقون مع الحركة اليومية للسماء الأولى وهي عند أرسطو أكثر الحركات اكتمالا، كما أن الإغريق واللاتين وسائر الأوروبيين يكتبون من اليسار إلى اليمين وفق حركة السماء الثانية المكونة من سبعة كواكب. أما الهنود واليابانيون والصينيون فيكتبون من أسفل إلى أعلى وفق نظام الطبيعة الذي أعطى للإنسان الرأس في أعلى والقدمين في أسفل، وعلى عكسهم كتب المكسيكيون من أسفل الى أعلى أو في خطوط حلزونية طبقا لمسار الشمس حول دائرة البروج• وهو ما يعني أن الكتابة في هندستها المادية إنما تعبر عن العالم بسمائه وأرضه.
سؤال الأسبقية
وقضية السبق والمعيارية هنا ليست قضية شكلية بل تتصل اتصالا مباشرا بالمعرفة التي يقدمها الوحي السماوي لخلق الإنسان كما تترتب عليها نتائج شديدة الأهمية، فبينما يرى عالم اللغة الشهير "فريدناند دي سوسير" بأسبقية الشفاهي على الكتابي بناء على أن الإنسان يتعلم النطق قبل الكتابة، وإن كان يقر في السياق نفسه بأن الكتابي أكثر قدرة على البقاء وعلى حفظ وحدة اللغة، ويشايع "دي سوسير" في القول بأسبقية الشفاهي على الكتابي "ينديتو كوتشي وجان بياجيه" وآخرون.
بينما يرى "ميشيل فوكوه" أسبقية الكتابي على الشفاهي قائلا: "إن الله أنزل الى العالم نصوصاً وكلمات مكتوبة أما آدم فلم يفعل سوى قراءة العلامات المرئية الصامتة التي أنزلها الله كأسماء لمسميات••••
يضاف إلى ذلك أن القانون الإلهي مكتوب في اللوح المحفوظ••• وهذا ما دعا بعض مؤرخي القرن السادس عشر إلى أن يقرروا أن النص المكتوب كان دائما يسبق الكلام الشفاهي، سواء كان هذا السبق في الطبيعة ذاتها أو في معرفة البشر".
وفي مواجهة العناية بالشفاهي "الكلام" مقابل الكتابي "الكتابة" صاغ الفيلسوف "جاك دريدا" مصطلح "علم الكتابة" كدعوة لإعادة النظر في دور الكتابة على نحو أكثر جدية، لا بوصفها متمماً للكلام المنطوق وإنما بوصفها كيانا ذا خصوصية، بعكس الكلام الذي يختفي لمجرد نطقة ما لم يسجل، وهي إلى جانب ذلك قابلة للانتقال فيمكن تكرارها رغم غياب سياقها، بل يمكن أن تقرأ ضمن سياقات أخرى جديدة، وهي أيضا قادرة على الانتقال من مرجع حاضر لآخر، وجميعها في نظر "دريدا" سمات تنفرد بها الكتابة ولا يستطيع الكلام امتلاكها.
وأسبقية الكتابة تعني أسبقية "السماوي" المفارق للمادة على "الأرضي" المادي الذي صنعه الإنسان عبر تاريخه، ويحفل القرآن الكريم بالشواهد الكثيرة جدا على انحيازه التام للكتابي مقابل الشفاهي، فمادة "كتب" ومشتقاتها ترد في أكثر من ثلاثين مفردة، بعضها سمى الله فيها بعض أفعاله كتابة وبعضها نسب فعل الكتابة للملائكة• وابتداء الوحي السماوي هو بالأمر الإلهي (اقرأ) (العلق -1) ولا قراءة إلا من مكتوب، وفي القرآن أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتابة وأدواتها ن والقلم وما يسطرون (القلم -1)، والقرآن "في لوح محفوظ" (البروج 22)، والعباد الصالحون إنما يورثهم الله "الكتاب" يقول تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا (فاطر، 32)، والله سبحانه وتعالى يعدد ضمن نعمه على الإنسان وضمن صفاته أنه علَّم بالقلم وهو من لوازم الكتابة إقرأ وربك الأكرم• الذي علَّم بالقلم• علَّم الإنسان مالم يعلم(العلق 3-5) والرسول [ رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيِّمة(البينة 2)• كما أنه سبحانه سمى الوحي كلمة وكلاما وكلمات وكذلك عيسى عليه السلام.
وتعد آية "الَّديْن" (الآية 282 من سورة البقرة) أنموذجا رائعا للموقف الإسلامي - على المستوى التشريعي - من المفاضلة بين الشفاهية والكتابية فالخطاب فيها هو للمؤمنين والأمر بعده صريح بكتابة الديون "يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)، والكاتب الذي يدونه يكتب "كما علَّمه الله"، وقرب ختام الآية الطويلة يبشر الله المؤمنين ببشرى تربط التقوى بالتعليم الإلهي للإنسان (واتقوا الله ويعلمكم الله) البقرة282/، فالكتابة في المنظور الإسلامي تربط "الأرض" بـ "السماء" برباط "الكتب" التي هي كلمة الله وكلماته وكلامه•
العربية استثناء لغويوالتساؤل عن "مطلق الشفاهي" و"مطلق الكتابي" يفترض تطابق اللغات وتشابهها التام بينما اللغة العربية ذات طابع استثنائي فكما يصفها عالم اللغويات "يا روسلاف ستيكيفتش" الذي خصها بأفضل كتاب حديث: مثل "فينوس" التي ولدت جميلة كاملة وحافظت على جمالها هذا رغم أحداث التاريخ ومرور الزمن•
وفي نظر الطالب الغربي، "توحي العربية بجاذبية شبه رياضية، النظام الكامل لحروف الجذر الصامت الثلاثة واشتقاقات الأفعال انطلاقا من معانيها الأولى إضافة الى تشكل أسماء الأفعال، وضوح ومنطق ونظام وتجريد" ورسم تحلو مشاهدته مكتوبا• من هنا الدور المركزي والمستمر لفن الخط وهو مزيج معقد يقترب من التزيين أكثر منه إلى الكتابة الواضحة المعالم.
والفصحى المعاصرة ولدت من تحديث بدأ في آخر عقود القرن التاسع عشر أو حقبة "النهضة" كما تسمى وهي في الأساس صنعة مجموعة من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والمصريين، عدد المسيحيين بينهم لافت للانتباه•••• فعمدوا معاً الى تعديل القواعد الأساسية العائدة الى القرن السابع وتبسيطها، ومارسوا الاستعراب أي إدخال تعابير، "كالقطار والشركة والديموقراطية والاشتراكية"، لم تكن مستعملة في المرحلة الكلاسيكية، من خلال موارد اللغة الغنية ومبدأ "القياس" فرض هؤلاء الرجال قاموسا جديدا يمثل اليوم نحو 60% من اللغة الشائعة فأدت النهضة إلى "تحرر" من النصوص الدينية بإدخال تعابير علمانية خلسة إلى ما يقوله العرب ويكتبونه.
وبالتالي فإن قضية الشفاهية والكتابي ووجهها الآخر الفصحى والعامية من القضايا الدينية في المقام الأول والنقاش بشأنهما نتاج حقبة السيطرة الثقافية الأوروبية العلمانية على شرائح واسعة من المثقفين العرب، وهم بدورهم رفضوا القول: إن العربية تمثل ظاهرة استثنائية واتهموها بما اتهم به غيرها من اللغات من قصور وجمود وانحازوا للشفاهية "العامية" مطالبين بتحديث لغوي على هذا الأساس، وهو ما يؤدي كما قال البروفيسور "إدوارد سعيد" إلى تقويض سلطة الكتب المقدّسة.
الشفاهية والكتابة كإشكالية ثقافية/ ممدوح الشيخ
تحتل قضية "الشفاهية والكتابة" شديد الأهمية في عالم اليوم بوصفها واحدة من القضايا الثقافية الرئيسة. وتتجاوز أهميتها حقل الإبداع الأدبي كونها تثار فيها في سياق السجال حول وسيلة التعبير لا حول المغزى المعرفي للانحياز لأي منهما، فالشفاهي والكتابي في كل الثقافات متجاوران متفاعلان يتبادلان التأثير والتأثر، غير أن الإشكالية في المنظور الثقافي لها أبعاد أخرى شديدة الأهمية وفي سياق اتجاه عالمي لتأكيد الهوية الثقافية وعناصر التميز والاختلاف عن الآخر تشهد ثقافات كثيرة اهتماما مبالغا فيه بـ "الشفاهي" بغية تأكيد المحلية، كما تظهر في العالم العربي من آن لآخر دعوات لاستبدال الفصحى بالعامية كمنحى تطويري للعربية، وهو ما يقترن عادة بالادعاء بأن العربية جامدة عاجزة عن مواكبة العصر أو قاصرة عن التعبير عن مفاهيم علمية.
اللغة والمقدَّس
ولعل البعد الأكثر أهمية الذي نرى البدء منه لتحديد موضع هذا التساؤل هو علاقة اللغة بالمقَّدس، حيث تطرح القضية عادة على نحو "مبتسر" يقصر دائرة النظر على "المعيش" المباشر اليومي من دون الإشارة الى صلته بالمقدَّس، وحسب المفكر الفلسطيني الراحل الدكتور "إدوارد سعيد" فإن إشكالية الشفاهية والكتابة تثير "الكثير من السجالات، إنها مسألة على درجة عالية من الخطورة كونها ترتبط بعناصر أيديولوجية لا شأن لها في المعيش اليومي للغة عند الناطقين بها".
ويضيف الدكتور "إدوارد" أن البلاغة في التقليد الأدبي العربي عمرها ألف عام والكتَّاب العباسيون من أمثال "الجاحظ والجرجاني" بلوروا أنظمة بالغة التعقيد وحديثة إلى حد غريب سخروها لفهم البيان والفصاحة والاستعارة• لكن هذه الأبحاث ارتكزت على اللغة الكلاسيكية المكتوبة وليس على المحكي اليومي منها• فالأولى يطغي عليها القرآن بصفته الأصل والنموذج لكل ما يأتي بعده في حقل اللغة• وهي نقطة لا يعتادها مستخدمو اللغات الأوروبية الحديثة التي تتطابق فيها اللغتان المحكية والمكتوبة وفقدت فيها الكتب المقدَّسة سلطانها اللغوي.
والملاحظتان اللتان ينبغي التوقف عندهما في أطروحة "إدوارد سعيد" أن الإجابة عن السؤال تتصل بالأيديولوجيا، أي بالأفكار المسبقة غير القابلة للبرهنة، ما يعني أنها جزء من رؤية الإنسان للكون والذات كما أنها تتضمن بالضرورة انحيازاً ولا تتصل بالعلم بطبيعته المحايدة المنضبطة بالمنهج• أما الملاحظة الثانية فهي الارتباط بين غياب "النموذج المكتوب" المتصف بالثبات كوسيط مواز للشفاهي المتطور بتطور الحياة اليومية وبين فقدان "السلطة اللغوية" للكتب المقدَّسة، وإن لم يشر الى تأثير ذلك في فقدان السلطة المعرفية والثقافية لهذه الكتب كنتيجة طبيعية لفقدان سلطانها اللغوي.
حول المفهومين
لا يقتصر مفهوم الشفاهي على المنطوق والمسموع بل يزيد عليه وسائل أخرى للتواصل الحركي من إيماءات وإشارات وملامح وأوضاع لحركة الجسد كتعبيرات مصاحبة تسند التعبيرات اللفظية لتؤكدها أو تعززها أو تضيف إليها قصد جعل ما تتضمنه هذه النصوص الشفاهية أكثر حياة ووضوحا وجاذبية.
والمشكلة كما أشرنا سلفاً ليست في إمكان التجاور بينهما كوسطين للتعبير أو مستويين للثقافة بل في سعي أنصار الشفاهية لمنحها موضع الأولية، فالشفاهي لا يتطابق مع مفهوم "ما قبل الكتابي" بوصفه مرحلة بدائية تتصف بالقصور، وهو بالتالي ليس انحرافا عن "الكتابي" بل هو الحال المعيارية، وبالتالي فالشفاهية "أصل معياري" والكتابة انحراف عن هذا المعياري.
أما الكتابي فهو حسب تعريف المنحازين لأولية الشفاهية ما ينتج من "لقاء لغة بأخرى، أي لقاء اللغة الصوتية بلغة الخطوط المرئية وحتى يتم الانتفاع بها يجب الانتقال من القناة السمعية إلى الأخرى البصرية، وهو ما يختم بالتالي تعبيرا في نظام العلامات"، وكما هو واضح ينطلق التعريف من أن العلاقة بين المنطوق والمنطوق علاقة بين لغتين لا بين وسيطين للتعريف، كما أن الكتابة لا تؤدي إلى حماية المنطوق من التحريف بل هي نفسها تحرفه!!!
وحسب "تزفتيان تودوروف" فإن للكتابة معنيين: "ضيق يراه في النظام المنقوش للغة المدوَّنة• وعام يقصد به: "كل نظام مكاني ودلالي مرئي". وفي إطار انتقاص قدر الكتابي كموقف "أيديولوجي" يتم تشييد بنية تاريخية ومفاهيمية كاملة تعزز هذا الانحياز، فمثلاً، "الكتابة ظهرت بعد إدراك الإنسان الحقيقة الفاجعة: "أن العدم هو قدره، فاتخذها وسيلة لدحر هذا العدم، وهذا ما توحي به أسطورة (جلجامش)، التي تذهب إلى أن البطل حارب قدره ونازل الآلهة وتمرد على سلطانها، وحين عاد من صراعه مهزوما بدأ يكتب سيرته على الألواح".
ولدى البدائيين مثلت الكتابة إحدى أدوات العرافة بوصفها قوة غيبية ذات أثر فاعل، وتمتد رمزية الكتابة إلى أسلوب تدوينها ويسوق "ميشيل فوكو" في البرهنة على ذلك ملاحظة لأحد كتاب عصر النهضة الأوروبي هو "كلود ديريه" هي أن: "العرب والعبرانيين والمصريين والأتراك والفرس والتتار" يكتبون جميعا من اليمين إلى اليسار، وهم في هذا يتفقون مع الحركة اليومية للسماء الأولى وهي عند أرسطو أكثر الحركات اكتمالا، كما أن الإغريق واللاتين وسائر الأوروبيين يكتبون من اليسار إلى اليمين وفق حركة السماء الثانية المكونة من سبعة كواكب. أما الهنود واليابانيون والصينيون فيكتبون من أسفل إلى أعلى وفق نظام الطبيعة الذي أعطى للإنسان الرأس في أعلى والقدمين في أسفل، وعلى عكسهم كتب المكسيكيون من أسفل الى أعلى أو في خطوط حلزونية طبقا لمسار الشمس حول دائرة البروج• وهو ما يعني أن الكتابة في هندستها المادية إنما تعبر عن العالم بسمائه وأرضه.
سؤال الأسبقية
وقضية السبق والمعيارية هنا ليست قضية شكلية بل تتصل اتصالا مباشرا بالمعرفة التي يقدمها الوحي السماوي لخلق الإنسان كما تترتب عليها نتائج شديدة الأهمية، فبينما يرى عالم اللغة الشهير "فريدناند دي سوسير" بأسبقية الشفاهي على الكتابي بناء على أن الإنسان يتعلم النطق قبل الكتابة، وإن كان يقر في السياق نفسه بأن الكتابي أكثر قدرة على البقاء وعلى حفظ وحدة اللغة، ويشايع "دي سوسير" في القول بأسبقية الشفاهي على الكتابي "ينديتو كوتشي وجان بياجيه" وآخرون.
بينما يرى "ميشيل فوكوه" أسبقية الكتابي على الشفاهي قائلا: "إن الله أنزل الى العالم نصوصاً وكلمات مكتوبة أما آدم فلم يفعل سوى قراءة العلامات المرئية الصامتة التي أنزلها الله كأسماء لمسميات••••
يضاف إلى ذلك أن القانون الإلهي مكتوب في اللوح المحفوظ••• وهذا ما دعا بعض مؤرخي القرن السادس عشر إلى أن يقرروا أن النص المكتوب كان دائما يسبق الكلام الشفاهي، سواء كان هذا السبق في الطبيعة ذاتها أو في معرفة البشر".
وفي مواجهة العناية بالشفاهي "الكلام" مقابل الكتابي "الكتابة" صاغ الفيلسوف "جاك دريدا" مصطلح "علم الكتابة" كدعوة لإعادة النظر في دور الكتابة على نحو أكثر جدية، لا بوصفها متمماً للكلام المنطوق وإنما بوصفها كيانا ذا خصوصية، بعكس الكلام الذي يختفي لمجرد نطقة ما لم يسجل، وهي إلى جانب ذلك قابلة للانتقال فيمكن تكرارها رغم غياب سياقها، بل يمكن أن تقرأ ضمن سياقات أخرى جديدة، وهي أيضا قادرة على الانتقال من مرجع حاضر لآخر، وجميعها في نظر "دريدا" سمات تنفرد بها الكتابة ولا يستطيع الكلام امتلاكها.
وأسبقية الكتابة تعني أسبقية "السماوي" المفارق للمادة على "الأرضي" المادي الذي صنعه الإنسان عبر تاريخه، ويحفل القرآن الكريم بالشواهد الكثيرة جدا على انحيازه التام للكتابي مقابل الشفاهي، فمادة "كتب" ومشتقاتها ترد في أكثر من ثلاثين مفردة، بعضها سمى الله فيها بعض أفعاله كتابة وبعضها نسب فعل الكتابة للملائكة• وابتداء الوحي السماوي هو بالأمر الإلهي (اقرأ) (العلق -1) ولا قراءة إلا من مكتوب، وفي القرآن أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتابة وأدواتها ن والقلم وما يسطرون (القلم -1)، والقرآن "في لوح محفوظ" (البروج 22)، والعباد الصالحون إنما يورثهم الله "الكتاب" يقول تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا (فاطر، 32)، والله سبحانه وتعالى يعدد ضمن نعمه على الإنسان وضمن صفاته أنه علَّم بالقلم وهو من لوازم الكتابة إقرأ وربك الأكرم• الذي علَّم بالقلم• علَّم الإنسان مالم يعلم(العلق 3-5) والرسول [ رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيِّمة(البينة 2)• كما أنه سبحانه سمى الوحي كلمة وكلاما وكلمات وكذلك عيسى عليه السلام.
وتعد آية "الَّديْن" (الآية 282 من سورة البقرة) أنموذجا رائعا للموقف الإسلامي - على المستوى التشريعي - من المفاضلة بين الشفاهية والكتابية فالخطاب فيها هو للمؤمنين والأمر بعده صريح بكتابة الديون "يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)، والكاتب الذي يدونه يكتب "كما علَّمه الله"، وقرب ختام الآية الطويلة يبشر الله المؤمنين ببشرى تربط التقوى بالتعليم الإلهي للإنسان (واتقوا الله ويعلمكم الله) البقرة282/، فالكتابة في المنظور الإسلامي تربط "الأرض" بـ "السماء" برباط "الكتب" التي هي كلمة الله وكلماته وكلامه•
العربية استثناء لغويوالتساؤل عن "مطلق الشفاهي" و"مطلق الكتابي" يفترض تطابق اللغات وتشابهها التام بينما اللغة العربية ذات طابع استثنائي فكما يصفها عالم اللغويات "يا روسلاف ستيكيفتش" الذي خصها بأفضل كتاب حديث: مثل "فينوس" التي ولدت جميلة كاملة وحافظت على جمالها هذا رغم أحداث التاريخ ومرور الزمن•
وفي نظر الطالب الغربي، "توحي العربية بجاذبية شبه رياضية، النظام الكامل لحروف الجذر الصامت الثلاثة واشتقاقات الأفعال انطلاقا من معانيها الأولى إضافة الى تشكل أسماء الأفعال، وضوح ومنطق ونظام وتجريد" ورسم تحلو مشاهدته مكتوبا• من هنا الدور المركزي والمستمر لفن الخط وهو مزيج معقد يقترب من التزيين أكثر منه إلى الكتابة الواضحة المعالم.
والفصحى المعاصرة ولدت من تحديث بدأ في آخر عقود القرن التاسع عشر أو حقبة "النهضة" كما تسمى وهي في الأساس صنعة مجموعة من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والمصريين، عدد المسيحيين بينهم لافت للانتباه•••• فعمدوا معاً الى تعديل القواعد الأساسية العائدة الى القرن السابع وتبسيطها، ومارسوا الاستعراب أي إدخال تعابير، "كالقطار والشركة والديموقراطية والاشتراكية"، لم تكن مستعملة في المرحلة الكلاسيكية، من خلال موارد اللغة الغنية ومبدأ "القياس" فرض هؤلاء الرجال قاموسا جديدا يمثل اليوم نحو 60% من اللغة الشائعة فأدت النهضة إلى "تحرر" من النصوص الدينية بإدخال تعابير علمانية خلسة إلى ما يقوله العرب ويكتبونه.
وبالتالي فإن قضية الشفاهية والكتابي ووجهها الآخر الفصحى والعامية من القضايا الدينية في المقام الأول والنقاش بشأنهما نتاج حقبة السيطرة الثقافية الأوروبية العلمانية على شرائح واسعة من المثقفين العرب، وهم بدورهم رفضوا القول: إن العربية تمثل ظاهرة استثنائية واتهموها بما اتهم به غيرها من اللغات من قصور وجمود وانحازوا للشفاهية "العامية" مطالبين بتحديث لغوي على هذا الأساس، وهو ما يؤدي كما قال البروفيسور "إدوارد سعيد" إلى تقويض سلطة الكتب المقدّسة.
ضع تعليقك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق