الثلاثاء، يونيو 28، 2011

محاضرة : تحت عنوان:"سماحة الإسلام ونبذ المغالاة والغلو والتطرف"

الموسم الثقافي السنوي الثاني بقرية المرام
اليوم الثاني :18 – سبتمبر / أيلول 2010م
محاضرة : تحت عنوان:"سماحة الإسلام ونبذ المغالاة والغلو والتطرف"
 المقدمة :الحمد لله الذي حرّم الظلم على نفسه ، وجعله محرما بين الناس ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، القائل « إياكم والغلو في الدين » . . . ) وعلى آله وصحبه الموصوفين بالوسطية والاعتدال والخيرية والحكمة في الأمور كلها ، ومن سار على نهجهم القويم ، واقتفى أثرهم الرشيد إلى يوم الدين . . . . وبعد .لقد شعرت بالسعادة والغبطة عندما تلقيت دعوة كريمة من رابطة كريمة ، معروفة بالعلم والعمل والاعتدال والوسطية ، ألا وهي رابطة الوحدة للثقافة والتنمية - وفقها الله وسدد خطاها على درب الخير والعطاء والبناء- تلقيتها منها للمشاركة في الموسم الثقافي السنوي الثاني، الذي عزمت عقده في شوال 1431هـ بالمرام - و شاء الله تعالى ذالك لله الحمد - ضمن كوكبة من الشباب والأساتذة والأعيان والمتخصصين في القضايا المذكورة ، للكشف عن جذور هذا الوباء الخطير (الغلو والتطرف) الذي يهدد العالم اليوم ، وبيان موقف الإسلام منه ، وهو أمر في غاية الأهمية ، حتى تتضافر الجهود المخلصة ، وتوضع الأمور في نصابها ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة .
وقد سعدت بذلك كثيرا ، وقررت المشاركة في الموسم بتقديم محاضرة حول ( سماحة الإسلام ونبذ المغالاة والغلو والتطرف ) الذي هو أحد محاور الموسم ، لكشف جذور الغلو والتطرف ، وبيان موقف الشرع الحنيف من هذا الفكر المنحرف الذي يهدد الأمن والاستقرار.
وقبل البدء في المحاضرة أود أن أنبه علي أمر مهم هو تحديد المصطلحات الشرعية. فأقول - وبالله التوفيق- إنه ينبغي للمسلمين عامة ، وللعلماء وطلبة العلم خاصة الالتزام بالألفاظ الشرعية ولا سيما في مجال بيان الأحكام الشرعية ، حتى لا نكون تبعًا لمصطلحات وألفاظ القوم ، وبالتالي قد نقع في محظور شرعي نحن في غنى عنه .
يقول العلامة ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية : " والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة ".
وعليه فإنني أستخدم في هذه المحاضرة لفظ (الغلو) بدل التطرف ، وهو التعبير الشرعي الصحيح عن التطرف ، حيث لم يرد الأخير في النصوص الشرعية ، وإن كانت كلمة التطرف معروفة في اللغة ومعناها: الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط ، وأصله في الحسيات ، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي ، ثم انتقل إلى المعنويات كالتطرف في الدين ، أو الفكر أو السلوك .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : النصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال ، وتحذر من التطرف الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها : (الغلو) و(التنطع) و ( التشدد) والغلو والتطرف أصل البلاء ورأس الفتنة ، ثم يأتي استخدام العنف والشدة والقسوة ومن ذلك الإرهاب والإرعاب وتخويف الناس.
لذا سأعرض المحاضرة كالتالي:
أولا : سماحة الإسلام و الوسطية كمنهج إسلامي
ثانيا : نبذ المغالاة و الغلو (التطرف)
أ – تعريف الغلو في اللغة
ب – تعريف الغلو في الاصطلاح
ج – حديث القرآن والسنة عن الغلو
أولا : سماحة الإسلام و الوسطية كمنهج إسلامي
الإسلام منهج وسط للأمة الوسط ، وهو يمثل الصراط المستقيم في كل المجالات ، ويجسد التوازن والاعتدال في كل شيء : في العقيدة والعبادة ، وفي الأخلاق والمعاملات والتشريعات كلها ، بعيدًا عن الغلو والتفريط .
 وسلوك هذا الطريق المستقيم أو المنهج الوسطي هو طريق النجاة للأمة الإسلامية ، وهو الذي يصل إلى الغاية المنشودة في رقي الأمة ماديا ومعنويا ، والعودة بها إلى القيادة للبشرية الحائرة بما لديها من رسالة ربانية إنسانية أخلاقية عالمية متكاملة متوازنة .
والإعراض عن هذه الوسطية والجنوح إلى أحد طرفي الإفراط أو التفريط هو عين الهلاك وضياع الدين والدنيا معًا . يقول - تعالى - في جانب التفريط والتقصير بإضاعة الصلوات وإتباع الشهوات والسير في ركاب شياطين الإنس والجن ، وباعة الفجور ومروجي الانحلال والإلحاد ، ودعاة المادية المجحفة ، والإباحية المسرفة ، يقول - تعالى - في بيان هلاكهم وفق سنته الثابتة : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [التوبة : 69 ] .
ويقول نبي الرحمة والعدل والتسامح - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من الغلو والإفراط وهو التنكب عن الوسطية والصراط المستقيم ، وأنه سبب هلاك من كان قبلنا: « إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » فلذا يجب على العلماء والأمراء توعية الناس وإرشادهم إلى الصراط المستقيم وإعادتهم إلى الوسطية والاعتدال حتى يكونوا من خير الأمم التي أخرجت للناس ، ويكونوا خيارا عدولا أهلا للشهادة على الناس في الآخرة وقيادتهم في الدنيا،ومن نعم الله على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطًا ، فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [ البقرة : 143 ] .
وقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 110 ] ، واصطفى الله لها أفضل رسله محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، وأنزل الله عليها أشرف كتبه ، وجعله مهيمنًا على الكتب قبله ، شاملا لخير ما جاءت به ، قال تعلى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] ، إلاّ أن الأمة في الجملة ابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي دعا إليه الإسلام ، فحصل فيها الإفراط والتفريط والغلو والجفاء ، مما أقض مضاجع العلماء والدعاة والمصلحين ، فشرعوا في البحث عن طريق العلاج ، ومعرفة أسباب النجاة ، سالكين منهج أهل السنة والجماعة ، نافين عن الدين غلو الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتفريط الكسالى ، ودعاوى المرجفين الزائغين حتى تعود الأمة إلى صراط الله المستقيم ، والمنهج الوسط القويم ..
 
ثانيا : نبذ المغالاة والغلو (التطرف)
أ- تعريف الغلو في اللغة :
تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد ، يدل على: مجاوزة الحد والقدر .
قال ابن فارس رحمه الله تعالى : الغين واللام والحرف المعتل : أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر ، يقال : غلا السعر يغلو غلاءً ، وذلك ارتفاعه ، وغلا الرجل في الأمر غلوًا إذا جاوز حده .
وقال الجوهري : وغلا في الأمر يغلو غلوًا ، أي جاوز فيه الحد .
وقال ابن منظور صاحب لسان العرب : وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا : جاوز حده .
 
 ب - تعريف الغلو في الاصطلاح :
لقد اجتهد العلماء في وضع تعريف للغلو في عبارات موجزة ، وهذه بعض تلك التعريفات :
1- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " الغلو : مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك " .
2- وعرّفه الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - بأنه : " المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد ".
وضابط الغلو هو: تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله : { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه:81].
ويتضح من تعريفات العلماء بأن الغلو في ميزان الشرع هو مجاوزة الحد في الأمر المشروع ، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده الشارع الحكيم العليم الخبير ؛ وذلك لأن الحق واسطة بين الإفراط والتفريط .
قال الحسن البصري رحمه الله:" سننكم - والله الذي لا إله إلاّ هو - بينهما بين الغالي والجافي ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " ما أمر الله بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزعتان : إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه ، كالوادي بين جبلين ، والهدى بين ضلالتين ، والوسط بين طرفين ذميمين ، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه مضيع له ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه ".
والغلو في الدين آفة قديمة ابتليت بها الأمم من قبلنا كما بليت بها هذه الأمة منذ فجر الإسلام .
وقد وردت نصوص من الذكر الحكيم في غلو أهل الكتاب في دينهم ، والقصد من ذلك هو تحذير هذه الأمة من داء الغلو العضال ، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك في حجة الوداع ليلة جمع ، كما رواه لنا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس رضي الله عنهما ، كما سيأتي قريبًا .
وللأمة المسلمة سمة بارزة هي الوسطية والاعتدال .
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة : 143] .فمن شاد الدين وغالبه ، فقد خالف مقصد الشارع من التشريع ، كما خرج عن سمة الأمة : العدل والوسطية .
وفيما يلي حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الغلو والتطرف ، وأنهما سبب الهلاك في الدين والدنيا
 
ج - حديث القرآن والسنة عن الغلو ( التطرف)
القرآن : كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باللفظ العربي المبين المتعبد بتلاوته ، المتحدى به الناس أجمعين - وفي مقدمتهم بلغاء العرب- المنقول إلينا بالتواتر ، المحفوظ في الصدور ، والمكتوب في السطور ، المحفوظ بحفظ الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9 ] .
والسنة هي : الثابت من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ، وأوصافه ، فهي مرادفة للحديث عند علماء الحديث ، كما يقصد بها طريقته المحمودة في تطبيق دين الإسلام .
فهي بيان وتفصيل لما جاء مجملًا في القرآن الكريم من أحكام شرعية وغيرها ، كما أنها تخصص بعض ما جاء عامًا فيه أو تقيد ما كان مطلقا فيه ، وقد تأتي بتشريعات جديدة في إطار مقاصد القرآن الكريم وتوجيهاته لقوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ } [ النحل : 44 ]
والقرآن والسنة هما المصدران المعصومان للأحكام الشرعية في الإسلام ، والمرجعان الفصلان في قضايا الأمة المسلمة ، فإذا عدنا إليهما في موضوع الغلو والتطرف ، فإننا نجد النهي الصريح والواضح عن الغلو في كتاب الله في آيتين عظيمتين في سورتي النساء والمائدة على النحو الآتي:
 
أ- في القرآن الكريم :
1- قال تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء : 171 ]
قال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية : " لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه ، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه ، يقال منه في الدين : قد غلا يغلو غلوًا ".
وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو ابن الله ، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة .
وعلى قول الحسن : غلو اليهود فيه ، قولهم : إنه لغير رشده.
وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : ينهى - تعالى - أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ؛ فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى - عليه السلام - حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلًا أو ضلالًا أو رشادًا أو صحيحًا أو كذبًا ، ولهذا قال الله تعالى فيهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة : 31 ] .
وقد روى أحمد عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » وهكذا رواه البخاري ولفظه : « فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله »
- أما الآية الثانية فقد جاءت في سورة المائدة ، قال تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة:77 ] .
قال الطبري في تفسيره: ( لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل ، فتقولوا فيه : هو الله ، أو هو ابنه ، ولكن قولوا هو : عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ).
يقول ابن تيمية : ( والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والأعمال من سائر الطوائف ، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن ).
ويقول الدكتور عبد الرحمن اللويحق في كتابه القيم : ( مشكلة الغلو . . . ) : وهاتان الآيتان وإن كانتا متعلقتين بأهل الكتاب ، فإن المراد تحذير هذه الأمة عن الغلو لتجنب أسباب هلاك الأمم السابقة .
ب- في السنة النبوية :
أما في السنة فإنه قد وردت أحاديث تنفر عن الغلو أشد التنفير ، وتحذر منه أشد التحذير ، وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو ، وذكر بعضها يساعد على فهم معنى الغلو وحدّه .
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع : " هلم القط لي الحصى " فلقطت له حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعهن في يده ، قال : " نعم بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين »
قال ابن تيمية - رحمه الله - وقوله « إياكم والغلو في الدين » عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقاد والأعمال . . . وسبب هذا اللفظ العام : رمي الجمار ، وهو داخل فيه .
فالغلو فيه : مثل الرمي بالحجارة الكبار ونحو ذلك بناءً على أنه أبلغ من الحصى الصغار .
ثم علل ذلك : بأن ما أهلك مَن قبلنا إلاّ الغلو في الدين ، كما تراه في النصارى ، وذلك يقتضي : أن مجانبة هديهم مطلقًا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا ، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكًا.
2- روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « هلك المتنطعون » قالها ثلاثا.
قال الإمام النووي : هلك المتنطعون : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحد في أقوالهم وأفعالهم .
ونلحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة الغلو والتنطع هي الهلاك وهو يشمل هلاك الدين والدنيا ، وأي خسارة أعظم من الهلاك ، وكفى بهذا زجرا .
والخير كل الخير في التوسط والتوازن بين الغلو والتقصير أو بين الإفراط والتفريط أو بين الطغيان والإخسار على حد تعبير القرآن الكريم ، قال تعالى : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ }{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7-9] .
والطغيان هو : تجاوز حد الوسط إلى جانب الغلو والإفراط ، والإخسار هو : تجاوزه إلى جانب التقصير والتفريط .
3- روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه ، فسددوا ، وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة » .
قال ابن حجر رحمه الله : ( والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلاّ عجز وانقطع فيغلب ) .
وقال ابن رجب - رحمه الله - : ( والتسديد العمل بالسداد ، وهو القصد والتوسط في العبادة ، فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل منها مالا يطيقه ).وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة الكاملة لنا - على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال التي جاء بها الإسلام ، حيث وازن به بين الروحية والمادية ، ووافق بين الدين والدنيا ، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة التي خلق لها الجن والإنس ، قال تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة :201 ] .
قال تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 77 ] .
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله : « اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح آخرتي التي إليها معادى ».وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يشدد النكير على النفر من صحابته الذي غلوا في التعبد ، وتعاهدوا على التبتل والانقطاع للعبادة بعد أن تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم .
4- أخرج مسلم في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه- « أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » . وسنته - عليه الصلاة والسلام - تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه ، وكيف يعبد ربه ويؤدي حقه ، وكيف يعامل نفسه وأهله والناس من حوله معطيًا كل ذي حق حقه في توازن واعتدال.
وفي الختام :لا يفوتني في هذه المناسبة الطيبة والعظيمة أن أنوه بجهود هذه الرابطة : "رابطة الوحدة للثقافة والتنمية" التي تبذل في نشر العلم والثقافة والأدب ، والشكر موصول لكل الأعضاء والمنتسبين ، خاصة الأخ ، أمين العلاقات العامة والإدارة والإعلام ، الأستاذ : اليدالي ولد الكوري لما أسداه لي ضمن إعداد هذه المحاضرة …شاكرا ومقدرا للجميع.
 
الأستاذ المحظري : عبيد ربه ، المختار ولد المصطفي
                                            بتاريخ : 18 / سبتمبر / أيلول 2010م
                                                قرية المرام
المصدر: http://elmaramtoday.blogspot.com/2013/05/blog-post_3.html#ixzz2xbd8KFKt المصدر: www.elmaramtoday.blogspot.com/2013/05/blog-post_3.html#ixzz2xbd8KFKt
الموسم الثقافي السنوي الثاني بقرية المرام
اليوم الثاني :18 – سبتمبر / أيلول 2010م
محاضرة : تحت عنوان:"سماحة الإسلام ونبذ المغالاة والغلو والتطرف"
 المقدمة :الحمد لله الذي حرّم الظلم على نفسه ، وجعله محرما بين الناس ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، القائل « إياكم والغلو في الدين » . . . ) وعلى آله وصحبه الموصوفين بالوسطية والاعتدال والخيرية والحكمة في الأمور كلها ، ومن سار على نهجهم القويم ، واقتفى أثرهم الرشيد إلى يوم الدين . . . . وبعد .لقد شعرت بالسعادة والغبطة عندما تلقيت دعوة كريمة من رابطة كريمة ، معروفة بالعلم والعمل والاعتدال والوسطية ، ألا وهي رابطة الوحدة للثقافة والتنمية - وفقها الله وسدد خطاها على درب الخير والعطاء والبناء- تلقيتها منها للمشاركة في الموسم الثقافي السنوي الثاني، الذي عزمت عقده في شوال 1431هـ بالمرام - و شاء الله تعالى ذالك لله الحمد - ضمن كوكبة من الشباب والأساتذة والأعيان والمتخصصين في القضايا المذكورة ، للكشف عن جذور هذا الوباء الخطير (الغلو والتطرف) الذي يهدد العالم اليوم ، وبيان موقف الإسلام منه ، وهو أمر في غاية الأهمية ، حتى تتضافر الجهود المخلصة ، وتوضع الأمور في نصابها ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة .
وقد سعدت بذلك كثيرا ، وقررت المشاركة في الموسم بتقديم محاضرة حول ( سماحة الإسلام ونبذ المغالاة والغلو والتطرف ) الذي هو أحد محاور الموسم ، لكشف جذور الغلو والتطرف ، وبيان موقف الشرع الحنيف من هذا الفكر المنحرف الذي يهدد الأمن والاستقرار.
وقبل البدء في المحاضرة أود أن أنبه علي أمر مهم هو تحديد المصطلحات الشرعية. فأقول - وبالله التوفيق- إنه ينبغي للمسلمين عامة ، وللعلماء وطلبة العلم خاصة الالتزام بالألفاظ الشرعية ولا سيما في مجال بيان الأحكام الشرعية ، حتى لا نكون تبعًا لمصطلحات وألفاظ القوم ، وبالتالي قد نقع في محظور شرعي نحن في غنى عنه .
يقول العلامة ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية : " والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة ".
وعليه فإنني أستخدم في هذه المحاضرة لفظ (الغلو) بدل التطرف ، وهو التعبير الشرعي الصحيح عن التطرف ، حيث لم يرد الأخير في النصوص الشرعية ، وإن كانت كلمة التطرف معروفة في اللغة ومعناها: الوقوف في الطرف بعيدا عن الوسط ، وأصله في الحسيات ، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي ، ثم انتقل إلى المعنويات كالتطرف في الدين ، أو الفكر أو السلوك .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : النصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال ، وتحذر من التطرف الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها : (الغلو) و(التنطع) و ( التشدد) والغلو والتطرف أصل البلاء ورأس الفتنة ، ثم يأتي استخدام العنف والشدة والقسوة ومن ذلك الإرهاب والإرعاب وتخويف الناس.
لذا سأعرض المحاضرة كالتالي:
أولا : سماحة الإسلام و الوسطية كمنهج إسلامي
ثانيا : نبذ المغالاة و الغلو (التطرف)
أ – تعريف الغلو في اللغة
ب – تعريف الغلو في الاصطلاح
ج – حديث القرآن والسنة عن الغلو
أولا : سماحة الإسلام و الوسطية كمنهج إسلامي
الإسلام منهج وسط للأمة الوسط ، وهو يمثل الصراط المستقيم في كل المجالات ، ويجسد التوازن والاعتدال في كل شيء : في العقيدة والعبادة ، وفي الأخلاق والمعاملات والتشريعات كلها ، بعيدًا عن الغلو والتفريط .
 وسلوك هذا الطريق المستقيم أو المنهج الوسطي هو طريق النجاة للأمة الإسلامية ، وهو الذي يصل إلى الغاية المنشودة في رقي الأمة ماديا ومعنويا ، والعودة بها إلى القيادة للبشرية الحائرة بما لديها من رسالة ربانية إنسانية أخلاقية عالمية متكاملة متوازنة .
والإعراض عن هذه الوسطية والجنوح إلى أحد طرفي الإفراط أو التفريط هو عين الهلاك وضياع الدين والدنيا معًا . يقول - تعالى - في جانب التفريط والتقصير بإضاعة الصلوات وإتباع الشهوات والسير في ركاب شياطين الإنس والجن ، وباعة الفجور ومروجي الانحلال والإلحاد ، ودعاة المادية المجحفة ، والإباحية المسرفة ، يقول - تعالى - في بيان هلاكهم وفق سنته الثابتة : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [التوبة : 69 ] .
ويقول نبي الرحمة والعدل والتسامح - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من الغلو والإفراط وهو التنكب عن الوسطية والصراط المستقيم ، وأنه سبب هلاك من كان قبلنا: « إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » فلذا يجب على العلماء والأمراء توعية الناس وإرشادهم إلى الصراط المستقيم وإعادتهم إلى الوسطية والاعتدال حتى يكونوا من خير الأمم التي أخرجت للناس ، ويكونوا خيارا عدولا أهلا للشهادة على الناس في الآخرة وقيادتهم في الدنيا،ومن نعم الله على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطًا ، فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [ البقرة : 143 ] .
وقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 110 ] ، واصطفى الله لها أفضل رسله محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، وأنزل الله عليها أشرف كتبه ، وجعله مهيمنًا على الكتب قبله ، شاملا لخير ما جاءت به ، قال تعلى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] ، إلاّ أن الأمة في الجملة ابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي دعا إليه الإسلام ، فحصل فيها الإفراط والتفريط والغلو والجفاء ، مما أقض مضاجع العلماء والدعاة والمصلحين ، فشرعوا في البحث عن طريق العلاج ، ومعرفة أسباب النجاة ، سالكين منهج أهل السنة والجماعة ، نافين عن الدين غلو الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتفريط الكسالى ، ودعاوى المرجفين الزائغين حتى تعود الأمة إلى صراط الله المستقيم ، والمنهج الوسط القويم ..
 
ثانيا : نبذ المغالاة والغلو (التطرف)
أ- تعريف الغلو في اللغة :
تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد ، يدل على: مجاوزة الحد والقدر .
قال ابن فارس رحمه الله تعالى : الغين واللام والحرف المعتل : أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر ، يقال : غلا السعر يغلو غلاءً ، وذلك ارتفاعه ، وغلا الرجل في الأمر غلوًا إذا جاوز حده .
وقال الجوهري : وغلا في الأمر يغلو غلوًا ، أي جاوز فيه الحد .
وقال ابن منظور صاحب لسان العرب : وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا : جاوز حده .
 
 ب - تعريف الغلو في الاصطلاح :
لقد اجتهد العلماء في وضع تعريف للغلو في عبارات موجزة ، وهذه بعض تلك التعريفات :
1- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " الغلو : مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك " .
2- وعرّفه الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - بأنه : " المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد ".
وضابط الغلو هو: تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله : { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه:81].
ويتضح من تعريفات العلماء بأن الغلو في ميزان الشرع هو مجاوزة الحد في الأمر المشروع ، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده الشارع الحكيم العليم الخبير ؛ وذلك لأن الحق واسطة بين الإفراط والتفريط .
قال الحسن البصري رحمه الله:" سننكم - والله الذي لا إله إلاّ هو - بينهما بين الغالي والجافي ".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " ما أمر الله بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزعتان : إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه ، كالوادي بين جبلين ، والهدى بين ضلالتين ، والوسط بين طرفين ذميمين ، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه مضيع له ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه ".
والغلو في الدين آفة قديمة ابتليت بها الأمم من قبلنا كما بليت بها هذه الأمة منذ فجر الإسلام .
وقد وردت نصوص من الذكر الحكيم في غلو أهل الكتاب في دينهم ، والقصد من ذلك هو تحذير هذه الأمة من داء الغلو العضال ، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك في حجة الوداع ليلة جمع ، كما رواه لنا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس رضي الله عنهما ، كما سيأتي قريبًا .
وللأمة المسلمة سمة بارزة هي الوسطية والاعتدال .
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة : 143] .فمن شاد الدين وغالبه ، فقد خالف مقصد الشارع من التشريع ، كما خرج عن سمة الأمة : العدل والوسطية .
وفيما يلي حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الغلو والتطرف ، وأنهما سبب الهلاك في الدين والدنيا
 
ج - حديث القرآن والسنة عن الغلو ( التطرف)
القرآن : كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باللفظ العربي المبين المتعبد بتلاوته ، المتحدى به الناس أجمعين - وفي مقدمتهم بلغاء العرب- المنقول إلينا بالتواتر ، المحفوظ في الصدور ، والمكتوب في السطور ، المحفوظ بحفظ الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9 ] .
والسنة هي : الثابت من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ، وأوصافه ، فهي مرادفة للحديث عند علماء الحديث ، كما يقصد بها طريقته المحمودة في تطبيق دين الإسلام .
فهي بيان وتفصيل لما جاء مجملًا في القرآن الكريم من أحكام شرعية وغيرها ، كما أنها تخصص بعض ما جاء عامًا فيه أو تقيد ما كان مطلقا فيه ، وقد تأتي بتشريعات جديدة في إطار مقاصد القرآن الكريم وتوجيهاته لقوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ } [ النحل : 44 ]
والقرآن والسنة هما المصدران المعصومان للأحكام الشرعية في الإسلام ، والمرجعان الفصلان في قضايا الأمة المسلمة ، فإذا عدنا إليهما في موضوع الغلو والتطرف ، فإننا نجد النهي الصريح والواضح عن الغلو في كتاب الله في آيتين عظيمتين في سورتي النساء والمائدة على النحو الآتي:
 
أ- في القرآن الكريم :
1- قال تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء : 171 ]
قال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية : " لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه ، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه ، يقال منه في الدين : قد غلا يغلو غلوًا ".
وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو ابن الله ، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة .
وعلى قول الحسن : غلو اليهود فيه ، قولهم : إنه لغير رشده.
وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : ينهى - تعالى - أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ؛ فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى - عليه السلام - حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلًا أو ضلالًا أو رشادًا أو صحيحًا أو كذبًا ، ولهذا قال الله تعالى فيهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة : 31 ] .
وقد روى أحمد عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » وهكذا رواه البخاري ولفظه : « فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله »
- أما الآية الثانية فقد جاءت في سورة المائدة ، قال تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة:77 ] .
قال الطبري في تفسيره: ( لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل ، فتقولوا فيه : هو الله ، أو هو ابنه ، ولكن قولوا هو : عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ).
يقول ابن تيمية : ( والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والأعمال من سائر الطوائف ، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن ).
ويقول الدكتور عبد الرحمن اللويحق في كتابه القيم : ( مشكلة الغلو . . . ) : وهاتان الآيتان وإن كانتا متعلقتين بأهل الكتاب ، فإن المراد تحذير هذه الأمة عن الغلو لتجنب أسباب هلاك الأمم السابقة .
ب- في السنة النبوية :
أما في السنة فإنه قد وردت أحاديث تنفر عن الغلو أشد التنفير ، وتحذر منه أشد التحذير ، وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو ، وذكر بعضها يساعد على فهم معنى الغلو وحدّه .
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع : " هلم القط لي الحصى " فلقطت له حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعهن في يده ، قال : " نعم بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين »
قال ابن تيمية - رحمه الله - وقوله « إياكم والغلو في الدين » عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقاد والأعمال . . . وسبب هذا اللفظ العام : رمي الجمار ، وهو داخل فيه .
فالغلو فيه : مثل الرمي بالحجارة الكبار ونحو ذلك بناءً على أنه أبلغ من الحصى الصغار .
ثم علل ذلك : بأن ما أهلك مَن قبلنا إلاّ الغلو في الدين ، كما تراه في النصارى ، وذلك يقتضي : أن مجانبة هديهم مطلقًا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا ، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكًا.
2- روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « هلك المتنطعون » قالها ثلاثا.
قال الإمام النووي : هلك المتنطعون : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحد في أقوالهم وأفعالهم .
ونلحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة الغلو والتنطع هي الهلاك وهو يشمل هلاك الدين والدنيا ، وأي خسارة أعظم من الهلاك ، وكفى بهذا زجرا .
والخير كل الخير في التوسط والتوازن بين الغلو والتقصير أو بين الإفراط والتفريط أو بين الطغيان والإخسار على حد تعبير القرآن الكريم ، قال تعالى : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ }{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7-9] .
والطغيان هو : تجاوز حد الوسط إلى جانب الغلو والإفراط ، والإخسار هو : تجاوزه إلى جانب التقصير والتفريط .
3- روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه ، فسددوا ، وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة » .
قال ابن حجر رحمه الله : ( والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلاّ عجز وانقطع فيغلب ) .
وقال ابن رجب - رحمه الله - : ( والتسديد العمل بالسداد ، وهو القصد والتوسط في العبادة ، فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل منها مالا يطيقه ).وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة الكاملة لنا - على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال التي جاء بها الإسلام ، حيث وازن به بين الروحية والمادية ، ووافق بين الدين والدنيا ، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة التي خلق لها الجن والإنس ، قال تعالى : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة :201 ] .
قال تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 77 ] .
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله : « اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح آخرتي التي إليها معادى ».وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يشدد النكير على النفر من صحابته الذي غلوا في التعبد ، وتعاهدوا على التبتل والانقطاع للعبادة بعد أن تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم .
4- أخرج مسلم في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه- « أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » . وسنته - عليه الصلاة والسلام - تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه ، وكيف يعبد ربه ويؤدي حقه ، وكيف يعامل نفسه وأهله والناس من حوله معطيًا كل ذي حق حقه في توازن واعتدال.
وفي الختام :لا يفوتني في هذه المناسبة الطيبة والعظيمة أن أنوه بجهود هذه الرابطة : "رابطة الوحدة للثقافة والتنمية" التي تبذل في نشر العلم والثقافة والأدب ، والشكر موصول لكل الأعضاء والمنتسبين ، خاصة الأخ ، أمين العلاقات العامة والإدارة والإعلام ، الأستاذ : اليدالي ولد الكوري لما أسداه لي ضمن إعداد هذه المحاضرة …شاكرا ومقدرا للجميع.
 
الأستاذ المحظري : عبيد ربه ، المختار ولد المصطفي
                                            بتاريخ : 18 / سبتمبر / أيلول 2010م
                                                قرية المرام


ضع تعليقك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق