سيطرت على مجرى العام الموشك على الرحيل أحداث ما بات يعرف بربيع الثورات العربية، مبشرا بحقبة تاريخية جديدة قادمة، وأحداث فصل جديد من فصول الأزمة المالية.. أو الرأسمالية، على محور أزمة اليورو، بعد جولة سابقة كان محورها شبكة المصارف وشبه المصارف المالية (مؤسسات المضاربة والرهون) فأصبحت الأزمتان المتتاليتان معا أشبه بعواصف الخريف، قبل أعاصير الشتاء، في مجرى تاريخ النظم الرأسمالية والليبرالية المهيمنة عالميا، وهي في القرن الثالث من "عمرها الحضاري".
آلام المخاض في اللحظة الآنية
لا توجد علاقة مباشرة ظاهرة للعيان بين هذا الربيع وذاك الخريف، أو لا يزال الوقت مبكرا لطرح تنبؤات من قبيل القول: هذه أحداث مخاض حضاري "عربي" جديد وتلك أحداث ضعف الشيخوخة في جسد حضاري "غربي" لم يعد يمكن وصفه بحضارة العصر الحديث.
وليس سهلا رؤية وجهة مسار المتغيرات في حياة الأسرة البشرية بأبعادها الزمنية التاريخية الكبرى، فالمتأمل في الأحداث يعيش تحت تأثير اللحظة الآنية من مجراها، إنّما قد يبصر ما وراءها إذا قارن وضعه وحدود ما يراه، بإنسان من أسلافه كان يتأمل اللحظة الآنية التي عايشها في الفترة الأولى من عصر التنوير الأوروبي ويرصد آنذاك آلام ضغوط الحقبة الأخيرة من السيطرة الاستبدادية الكنسية/الإقطاعية، أو آلام مخاض النهضة التي كانت معالمها غائبة عن الأنظار وراء أفق "المستقبل"، وفق موقعه الزمني، وجميع ذلك مقابل مظاهر الشيخوخة التي بدأت تنشر الضعف والتمزق في جسد حضارة إسلامية كانت تجر وراءها ثقل التخلف التدريجي عبر قرون سابقة عديدة، وكانت مظاهر الشيخوخة الأولى تلك، مقدمة لأوضاع ما أطلق عليه وصف "الرجل المريض" بعد فترة تاريخية وجيزة.. فكان انهياره حتمية تاريخية، أو وفق مصطلحات الحضارة الإسلامية: نتيجة مفروضة من خلال سنة من السنن التاريخية في الحياة البشرية.
" موازين دورة الحضارة لا تعرف "الفراغ"، وكل مظهر من مظاهر الضعف في مركز حضاري مهيمن، تقابله إرهاصات حضارة وليدة في مركز آخر لحضارة مغيّبة أو حضارة وليدة " |
إنّ مسار التاريخ البشري في جوهره مسار حضاري، رغم تركيز المؤرخين على انعكاساته على مجرى صراع القوة بين مراكز دورة الحضارات البشرية، ثم تعبير كثير منهم عن استغرابه لتغلب "قوة ضعيفة" نسبيا لمركز حضارة وليدة، على "قوة أكبر" بما لا يقاس لمركز حضارة مسنة.. كما كان في مواجهة الفتوح الإسلامية لإمبراطوريتي الفرس والروم قبل أكثر من ألف سنة.
ولئن كانت موازين القوى العالمية لا تعرف استمرار وجود "فراغ" دون ملئه سريعا -بمعايير ساعة الزمن التاريخية- فموازين دورة الحضارة كذلك لا تعرف "الفراغ" أيضا، وكل مظهر من مظاهر الضعف في مركز حضاري مهيمن، تقابله إرهاصات حضارة وليدة في مركز آخر لحضارة مغيّبة أو حضارة وليدة، ثم تتبع ذلك مرحلة الشيخوخة هنا متزامنة مع مراحل النهضة الفتية هناك.
كأن هذا بالذات ما رصده الفكر الأميركي الذي انطلقت منه حقبة بوش الابن مع مطلع الألفية الميلادية الثالثة، فتشبث بعنوان "قرن أميركي جديد"، وحاول فرضه عكس مجرى التيار التاريخي، أي بموازين القوة العسكرية المتمردة على المعايير الحضارية، فأخفق إخفاقا ذريعا، وتشابه مشهد محرقة الحروب التي أطلقها من عقالها مع مشهد محرقة "الحروب الدينية وقتل النساء والعلماء" في المرحلة الأخيرة من السيطرة الكنسية/الإقطاعية في العصور الوسيطة الأوروبية المظلمة. وقد انهارت السيطرة الكنسية آنذاك بدلا من أن تطيل عمرها بنفسها بالقوة، ولعل أبرز محور في الأزمة الرأسمالية الحالية، أن مصدر قوتها المالية تزعزع وبدأ يتآكل بصورة مشهودة، تحت معاول نفقات الحروب في الدرجة الأولى.. كما حدث للسيطرة الكنسية آنذاك.
تسري هذه المعادلة لتقلّبِ الدورات الحضارية على الحقبة التاريخية التي نعايشها، إنما لن يعايش الجيل الحالي على الأرجح رؤية حصيلتها، فتقلّب الدورات الحضارية قضية أجيال، هذا مع ملاحظة أن سرعة التقلبات الحضارية في تاريخ البشرية تضاعفت، بحكم مفعول تراكم إنتاج الوسائل عبر المسار الانسيابي الوحيد المتتابع بشريا: التطور العلمي والتقني، الذي تحتضنه حضارة بعد أخرى، وكل منها يبدأ عند النقطة التي انتهت إليها حضارة سابقة.
وهذا التسارع هو ما ينعكس في التأريخ للحضارات البشرية القديمة بألوف السنين، بينما لم يصل عمر الحضارة الإسلامية إلى ألف عام، ولا يتوقع أن يقاس عمر الحضارة الغربية المعاصرة بأكثر من عدة قرون.
" المرحلة الحالية التي أوصلت لخريف الرأسمالية الآن، لا يمكن أن تفضي خلال بضعة عقود، إلا إلى نهاية سيطرتها عالميا، لتنتقل حصيلة ما أنجزه الإنسان علما وتقنية في حقبتها، إلى مركز حضاري جديد يتابع الإنجاز والعطاء " |
إن المرحلة الحالية التي أوصلت لخريف الرأسمالية الآن، لا يمكن أن تفضي خلال بضعة عقود، إلا إلى نهاية سيطرتها عالميا، لتنتقل حصيلة ما أنجزه الإنسان علما وتقنية في حقبتها، إلى مركز حضاري جديد يتابع الإنجاز والعطاء.
وسبق أن شهدت مرحلة الانحسار الحضاري الإسلامي ومدّ النهضة الأوروبية قبل قرون، نقلة مشابهة لمسار التقدم العلمي والتقني، عندما تحولت مراكز الثقل الحضاري مع إنجازات العلم والتقنية من الجنوب إلى الشمال (بل انقلبت معها حتى رسوم الخرائط الجغرافية التي كانت منتشرة آنذاك، فبات يوضع الشمال في الأعلى والجنوب في الأسفل، على نقيض ما عرفته البشرية لعدة قرون في رسوم خارطة الإدريسي العالمية).
رغم ذلك.. هل يمكن القول الآن إنّ المركز الحضاري الجديد وفق هذه "الرؤية" سيكون مركز حضارة تولد في الربيع العربي، وتشمل تدريجيا الدائرة الحضارية الإسلامية، لتأخذ موقعا رائدا على مستوى الأسرة البشرية؟
أليس من "الجرأة" طرح مثل هذه التكهنات أثناء ما يثيره مجرى أحداث التعامل مع ثورات الربيع العربي من آلام لا تكاد تطاق، ولا يكاد يستطيع من يعاني منها أن يرى بصيص ضوء من الحرية في اليوم التالي من أيام معاناته، وليس بعد عقود.. ليطمئن إلى أوضاع أولاده وأحفاده؟
قبل قرون.. بدأت النقلة الحضارية التي اعتبرها المؤرخون من المدرسة الحضارية الوليدة آنذاك بداية "عصر حديث"، بقذائف فكرية لم تصمد أمامها الحصون الاستبدادية الكنسية والإقطاعية، بكل ما تملكه من قوة "متفوقة"، وبكل ما مارسته من "بطش" همجي. كان محور المطالب الحاسمة لرواد النهضة آنذاك: حرية الإنسان وكرامته وحرية الفكر وإبداعه وتحدي أغلال سيطرة الكهنة والملوك في المنظومة الكنسية الإقطاعية.
إنها سنة تاريخية حضارية متكررة.. تتبدل المواقع الجغرافية وتختلف الأزمنة، ولا يتبدل جوهر مسار الدورات الحضارية البشرية المتعاقبة.
من ذا كان يجرؤ على التكهن عند المخاض الأول لولادة النهضة الأوروبية في أوروبا قبل قرون، أن كلمات كانط وفولتيير وروسّو وأقرانهم ستنتصر على الإملاءات العقدية الكنسية (الدوغما) وتطبيقاتها حروبا واضطهادا وهيمنة؟
كذلك عند ولادة الحضارة الإسلامية قبل 1400 عام، سرى مفعول تلك السنة الحضارية، في المواجهة بين سيطرة "أشراف قريش وسادتها" واستخدام السياط والقتل في محاولة كتم استغاثات سمية وياسر وعمّار وصرخة "أحد أحد" على لسان بلال بن رباح، عندما اكتسبوا -وهم من العامة بمصطلحات اليوم- قوتهم من قوة ما تعنيه كلمات معجزة، من قبيل: ولقد كرّمنا بني آدم، التي لم يقتصر وجه الإعجاز فيها على حقيقة مصدرها الرباني فقط، بل تجلّى أيضا في تأثيرها، أي من حيث موقعها في سياق المنظومة السائدة.
آنذاك أيضا انتصرت في نهاية المطاف كلمة "اقرأ" على كلمة "اقتل".
النبتة الحضارية الغضّة.
من الطبيعي أن نرصد ونحن نردد هذه الكلمات عن عصر سابق كيف نصف بها واقعا مشهودا في الربيع العربي، فلا نحتاج إلا إلى تعديل بعض العبارات لنقول: إن نداءات الشهداء والجرحى في اليمن وسوريا -بعد أخواتهما- من أجل "الحرية والكرامة" وقد سرى في العامّة من الشعوب رصيد ما سبق من ثورات فكرية رائدة على الاستبداد، لا بد أن تنتصر في نهاية المطاف على كلمة "اقتل" على ألسنة المسؤولين لتنفذها الدبابات والبلاطجة والشبّيحة، مهما بدت موازين القوة غير متكافئة بين الجسد البشري والدبابة.
لا بد أن تنتصر -في سورية كمثال- كلمة "الله أكبر" على "بشار وبسّ".. لا بدّ أن تنتصر كلمة أنا الإنسان.. على كلمة أنا الاستبداد، وأنا الثائر على أنا الهمجي.
هنا بالذات يكمن البعد الحضاري الأهم في ربيع الثورات العربي: انتصار الإنسان اعتمادا على القوة الكامنة في إرادته وإبداعه، على الاستبداد المسلح المسيطر، وقد بلغ مرحلة "خرف" الشيخوخة في فكره وتصرفه.
وجميع ما سوى ذلك تفاصيل.. منها الجدل حول مصدر "قوّة الإنسان" الثائر، وتغييب حقيقة التلاقي الطبيعي -على سبيل المثال دون الحصر- بين مفعول نداء "الله أكبر" ومفعول نداء "حرية" في صناعة الثورة ومسارها، ومنها الكمّ الضخم من التخبط الذي ترمز إليه كلمات لا حصر لها، ترددت في جميع معاقل ثورات الربيع العربي، ومثالها في سورية: جراثيم.. وإصلاح، مؤامرة.. وحوار، "بشار وبس".. وانتخابات، الأوضاع هادئة ومشاهد الدبابات مفبركة.. وبين الإعلان عن انسحاب الدبابات، بل يظهر التخبط حتى في كلمات من قبيل المقاومة.. والقتل، والممانعة.. والاعتقال.
ومن التفاصيل أيضا -ولا يستهان بأهميتها- الغموض الأقرب إلى تعمد مواراة حقيقة المواقف والمخاوف، على محاور توزيع الأدوار في التعامل مع الحدث التاريخي الكبير، قصدا أو عن غير قصد.. سيّان، ما بين الجامعة العربية، والقوى الدولية، والقوى الإقليمية، أو بين المبادرات والسلمية والتدخلات الخارجية.
جوهر الحدث هو الانتصار الحضاري للإنسان، فلن ينقطع شيء من تلك التفاصيل حتى يبلغ الربيع العربي غايته، وتظهر ثماره، وليست التفاصيل سوى من قبيل السيول التي تعجز عن أن تجرف نبتة طرية لا بد أن تتحول إلى شجرة طيبة، جذرها في الأعماق، يدفع بفروعها لتمتد إلى الآفاق، ولكن يشغلنا عن رؤيتها مشهد السيول من مؤامرات الأنظمة الاستبدادية ومنظومة استبداد الهيمنة الدولية الآنية، وبقدر ما ننشغل بها، نغفل -كما تغفل تلك الأنظمة- عن رؤية جوهر الحدث ببعده الحضاري المديد.
وبقدر ما نرى هذا البعد الحضاري متمثلا في انتصار الإنسان وهو يصنع مسارا حضاريا جديدا، نرى أيضا تمرد الإنسان في الغرب على ما بقي من أركان هيمنة مسار حضاري انحرف وهو يتجاوز ذروة تقدمه وإنجازاته، لصالح استبداد المال على حساب الإنسان، على حساب إرادة الإنسان الفرد، وعلى حساب حقوقه المعيشية الأساسية. وقد بدأت تتبدل معالم الجبهات، في ساحاتها المتعددة، في "ميادين التحرير" التي بدأت تنبت كالفطر في الدول الغربية، ناهيك عن ميادين أخرى لا تظهر بوضوح دون تفصيل لا يتسع له المجال.
" كل حل يُطرح في مواجهة الأزمات المالية المتوالية، يصدر عمن صنعها، فلا يصل به إلى مستوى قابلية التخلص منها، فالتخلص منها لا يتحقق دون تقويض أركان من يطرح الحلول: هيمنة المال على صناعة القرار " |
والأهم هو ما بدأ يظهر للعيان أن الأزمة الرأسمالية المتفاقمة عصية على الحلول التقليدية، لأنها تمس جوهر استمرار وجود الهيمنة المالية على الإنسان، فالحل.. يعني نهايتها، تماما كما أصبحت أزمة الاستبداد المحلي في بلد كسورية عصية على الحلول التقليدية لأن الحل يعني نهاية الاستبداد نفسه.
هذا ما يشهد عليه أن كل حل يُطرح في مواجهة الأزمات المالية المتوالية، يصدر عمن صنعها، فلا يصل به إلى مستوى قابلية التخلص منها، فالتخلص منها لا يتحقق دون تقويض أركان من يطرح الحلول: هيمنة المال على صناعة القرار.
وهذا بدوره ما يعيدنا من وراء معايشة الآلام في الحدث الآنيّ، في العالمين العربي والغربي، إلى رؤية معالم أهم سنة من سنن مسار تقلب الدورات الحضارية البشرية المتعاقبة: استحالة نشأة "فراغ حضاري"، وهو مما يؤكد أن اللحظة التاريخية الراهنة، هي لحظة بداية احتضار هنا، مقابل مخاض ولادة حضارية هناك.. خريف لا بد أن يتبعه شتاء وصقيع، وربيع لا بد أن يتبعه صيف وثمار.
ضع تعليقك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق